الجمعة، 17 مارس 2017

زر أحمر كبير

تيك توك .. تيك توك
اخذ يطرق بأنامله على حافة المكتب الخشبي الأبيض في ملل.
تيك توك .. تيك توك

تصاعد إيقاع طرقاته وسرعتها بالتدريج، حتى صارت سريعة متتالية بلا إيقاع وضح، توقف عن الطرق بغتة بعدما بلغ ألم أصابعه حدًا لم يستطع إحتماله، أطلق أهة ألم تبعها زفرة عميقة، فرد ظهره على الكرسي الوثير الأسود وشد ذراعيه عاليًا في أقصى إتساع لهما محاولًا فك عضلاته المتيبسة، دار بالكرسي حول محوره دورة كاملة، تشبث بمقدمة المكتب ليتوقف عن الدوران، عاد بنظره إلى منتصف المكتب، حيث يرقد في مركزه الزر الأحمر الكبير إلى جوار الهاتف البلاستيكي الأخضر الخالي من الأزرار، بحركة ميكانيكية رفع سماعة الهاتف المعد لإستقبال المكالمات فقط ووضعها على أذنه، تأكد من وجود طنين الحرارة المستمر مثلما كان دومًا، وضع السماعة بسرعة تخوفًا من أن تأتيه المكالمة منهم الأن بالذات بينما يرفع بالسماعة فلا يصلون إليه.

ولكن رغم إستجابته السريعة لهذه الفكرة إلا أنها كانت باهتة ضعيفة التأثير عليه، مجرد فكرة بدون تأثير حقيقي على دقات قلبه وإتساع حدقات عينيه وإفرازه للعرق، ليست مثلما كانت تأتيه في الشهور الأولى مثلًا من توليه تلك الوظيفة، أيامها كان ينتظر المكالمة في كل ثانية، كان يقضي ساعات عمله الثمانية اليومية متأهبًا جاهزًا للإنقضاض على السماعة ما أن يرن الهاتف، ولأن المكالمة لم تأت، كان يرفع السماعة من حين إلى حين ليتأكد من أن الهاتف يعمل بكفاءة، ولا يكاد يرفعها لجزء من الثانية قبل أن يلقيها في رعب، وكأنها حية سامة، يملؤه اليقين أنهم حتمًا قد اتصلوا ولم تصله المكالمة، ولن يفعلوا مرة أخرى، هو قد أخفق في أداء وظيفته الوحيدة وانتهى الأمر، وسيصله في أي لحظة خطاب الرفد، ثم تمضي الساعات والأيام بلا أي أحداث هامة، وبلا أي رنين، وتعود الشكوك لتخامره مرة أخرى ويظن أن الهاتف ربما قد أصابه العطب، فيرفع السماعة مرة أخرى ... كل هذا كان في سنواته الأولى، سنوات الحماس والقلق، لا تدوم مثل هذه المشاعر لسبعة سنوات أبدًا، هي مشاعر تحتاج إلى وقود من الأحداث، أي أحداث، دائمة الوقع. ولكن عندما لا يحدث أي شيء، تخمد كل المشاعر ولا يبقى سوى الملل.

ولا يبقى سوى الملل؟ لا، هذا تعبير خاطيء، هناك أيضًا الفضول، الفضول شعور أخر يدوم لسنوات ما لم يجد ما يشبعه، الفضول لمعرفة وظيفة الزر الأحمر الكبير.

عادت أنامله للطرق برفق على طرف المكتب، ولكن بدلًا من أن تتصاعد حدتها أو سرعتها مثل أول مرة، تحركت إلى الأمام، تحركت أصابعه على سطح المكتب كأرجل عنكبوت، اصبع يسحب الأخر يسحب الأخر، حتى بلغت يده محيط  دائرة وهمية نصف قطرها طول سبابته ومركزها الزر الأحمر، الكبير. ضم أصابعه كلها إلا سبابته، بطرف السبابة دار حول الزر دائرة كاملة، متحسسًا الطلاء الأبيض الجاف الذي يغطي المكتب، وبنعومة لمس الزر وتحسسه لثوان، الرغبة في الضغط عليه كانت كالعادة جارفة، كاد أن يفعلها، ولكنه سحب يده في أخر لحظة، هز رأسه بعنف ككلب ينفض عن نفسه الماء.

الأزرار مجهولة الوظيفة دومًا مثيرة للفضول، بالذات إذا كانت حمراء، ولا سيما إن كانت كبيرة. فكر في هذا للمرة الأولى في مقابلة القبول لهذه الوظيفة قبل سبع سنوات، ولكن تساؤله عن وظيفة الزر لم يتعد كونه خاطرة عابرة هزيلة في خلفية أفكاره الرئيسية، كل ما كان يهمه في وقتها هو أن يبدو واثقًا كفاية، ذكيًا كفاية، رائعًا وسيمًا ماهرًا بما فيه الكفاية ليقنع مسئول الموارد البشرية في الشركة العالمية المتحدة المحدودة لقبوله في هذه الوظيفة.

* * * *

"وظيفتك هي الجلوس على هذا المقعد، والضغط على هذا الزر ما أن تأتيك مكالمة على هذا الهاتف تخبرك أن تفعل"

قالها مسئول الموارد البشرية بلهجة حاسمة، كاد أن يسأله عن وظيفة هذا الزر بالضبط، ولكنه تراجع قبل أن يخرج السؤال إلى العلن، فكر بذكاء يُحسد عليه -أو هكذا حسب نفسه- أن مثل هذا السؤال الساذج سيقلل من فرص قبوله في هذه الوظيفة إلى ما يقرب الصفر، وهو بحاجة إليها، بحاجة إليها بشدة، مضى ذلك الزمن الجميل اللامع عندما كان يردد عبارات من نوعية "لا تضع ثانية من عمرك الثمين في وظيفة لا تحبها" أو "أتبع شغفك، أتبع حلمك"، كان لتلك العبارات رنين جميل في مناقشات الطلاب الجامعيين، ولكن بعد التخرج وقضاء أعوام بلا عمل سوى عامل كاشير في محل بقالة، لا يُصبح لإتباع الشغف معنى، ماهو هذا الشغف على أي حال؟ ليس لديه واحدًا ليتبعه. هز رأسه مع إبتسامة واثقة، موافقًا على كلمات موظف الموارد البشرية، فكر "لا يهم معرفة وظيفة هذا الزر الأن، سأعرف كل شيء لاحقًا بمحادثة ذكية مع رفاق العمل أو مع مسئول الموارد البشرية ذاته، أنا ذكي كفاية لإستدراج مثل هذه المعلومات بدون إلقاء أسئلة مباشرة تضيع مني الفرصة".

ولم تضع منه الفرصة، ولم يعرف شيئًا بمحادثة ذكية أو غير ذكية، في الواقع أنه لم يكن له أبدًا أي زملاء ليحادثهم، حتى مسئول الموارد البشرية لم يره مرة أخرى أبدًا بعد مقابلة العمل التي انتهت بقبوله في الوظيفة وتوقيعه على العقد. في بداية الأسبوع التالي ذهب لتسلم وظيفته، لم يضغط زر الجرس مثلما فعل أول مرة، الأن هو موظف رسمي في الشركة، مد إبهامه بمنتهى الفخر ليلمس عدسة جهاز قاريء البصمات المثبت على الحائط بجوار الباب، على شاشة الجهاز ظهرت علامة خضراء مع صوت أنثوي إلكتروني يشكره على تسجيل دخوله، مرت لحظات قضاها أمام الباب المصمت الأسود في سكون، الباب خالي من أي نقوش أو علامات، فقط توجد في منتصفه لافتة معدنية كتب عليها بخط محايد بلا أي لمسة فنية (الشركة العالمية المتحدة المحدودة)، قبل أن يتمكن منه القلق سمع تكة تشير إلى فتح الباب نتيجة لتعرف الجهاز على بصمته، ولج إلى محل عمله بإبتسامة واسعة وجسد منتصب، مستعيدًا كل ما درسه في حصص "لغة الجسد ومهارات التواصل" ليصدر عن نفسه صورة جيدة إلى زملاء عمله، ولم يجد أي منهم.

ينفتح الباب على صالة غير واسعة لها جدران أربعة، في كل منهم باب ولا يوجد في أيهم نافذة، أولهم باب الشقة الي ولج منه للتو، ثانيهم مغلق وعليه الحرفين اللاتينيين الأشهر W.C، والثالث مفتوح ويظهر منه مطبخ ضيق بسيط يحتوي على حوض مياه وغلاية مياه غير متصلة بالكهرباء مستريحة على رخامة نظيفة إلى جوار مج فارغ أبيض وعدة علب بلاستيكية مكتوب عليها "شاي" و "سكر" و"قهوة"، وفي الجدار الرابع ينتصب الباب الأكبر حجمًا مما يشي بأهمية ما يخبيه، وهو باب الغرفة التي يوجد فيها المكتب حيث جلس مع مسئول الموارد البشرية منذ عدة أيام، الذي صار مكتبه الأن.

"السلام عـ...إحم..مساء الخير"

ردد التحية بصوت مرتفع على أمل تلقي إجابة لم تأت، إنحسرت إبتسامته بالتدريج وإن لم تختف كليًا، مازال سعيدًا بقبوله بعد عناء في وظيفة سهلة ومجزية مثل هذه، تأكد من إغلاق باب الشقة، فتح في رفق باب غرفة المكتب متمنيًا أن يجد فيها زميلًا ما، وبالطبع لم يجد، تأمل المكتب للمرة الأولى في هدوء لا يشوبه توتر مقابلات العمل مثلما كان الأمر في المرة الأولى، الغرفة ليست واسعة، ولكنها بدت كذلك في ظل إفتقارها للأثاث، بإستثناء المكتب الأبيض الكبير الفارغ إلا من الزر والهاتف، وكرسيه الوثير الأسود، لا توجد في الغرفة أي قطعة أثاث أخرى، فراغ بدا كبيرًا وشاسعًا لعينه بين المكتب وبين الحائط المقابل له، الخالي إلا من نافذة مغلقة، أما الحائط الخلفي وراء الكرسي الأسود كُتب عليها إسم الشركة، "الشركة العالمية المتحدة المحدودة"، بنفس الحروف الميتة المحايدة المكتوب بها على الباب الخارجي، ولكن بحجم أكبر.

سحب نفسًا عميقًا برائحة الطلاء الجاف، تمتم بأدعية وصلوات هامسة، فك زر بدلته السوداء الأنيقة، جلس لأول مرة على ما صار بداية من هذه اللحظة مكتبه.

عقد ساعديه وإستند بهم على سطح المكتب، انحنى بكامل ثقله إلى الأمام متفحصًا بعينيه الزر والهاتف، فك يداه المعقودتان واقترب بهم بحذر شديد من الزر، تحسسه بلهفة، إستغرب من كبر حجمه، فكر أن الهواتف عادة أكبر من الأزرار وليس العكس مثلما هو الوضع الأن، وصل لنتيجة بدت منطقية أن حجم الزر الكبير ولونه راجع بالتأكيد إلى أهميته الشديدة، أشعرته هذه الفكرة بثقل المسئولية الملقاة على عاتقه، وغمره فجأة شعور بالفخر الشديد الناتج عن إختياره هو بالذات لمثل هذه المسئولية الضخمة، لابد أنهم رأوا فيه الحقيقة التي لم يراها كل مسئولي الشركات الأخرى التي تقدم إليها على مدار السنوات السابقة، رأوا فيه ....، هو لا يعرف ما رأوه فيه ولكن لابد أنهم أدركوا عنه حقائق عظيمة لا يعرفها هو عن نفسه، لن يعطوه مثل هذه المسئولية الرهيبة إلا لثقتهم المطلقة فيه بالتأكيد.

"مع أول مكالمة ستأتي سأسأل بمنتهى التهذيب عن وظيفة الزر، بعد أن أضغطه بالطبع، فأنا لن أعط مسئولي الشركة بأسئلتي إلا بعد تأكدي من أداء عملي على أحسن وجه".

وانتظر رنين الهاتف.
اليوم الأول مر، والثاني والثالث، والعاشر، لم يرن الهاتف، كان يجلس الساعات الثمانية كلها منتصبًا على الكرسي يشعر أن رنين الهاتف سينطلق في اللحظة التالية، مر أول شهر، جاءته رسالة نصية على هاتفه المحمول من البنك، تفيد بوصول مرتبه الشهري الأول إلى حسابه ، وهو مرتب مجزٍ كفاية ليجدد من حماسه وتأهبه لإنطلاق الرنين والضغط على الزر.

ضغط الزر ألف مرة، في أحلامه، ضغطه بسبباته ضغطة بسيطة غير مهتمة مثلما يضغط زر تشغيل الراديو مثلًا أو زر استدعاء المصعد، وكأن الأمر كله لا يعنيه، ضغطه واقفًا، منحنيًا إلى الأمام، مستندًا بكلتا يديه على المكتب، بقبضة مضمومة بقوة ومرفوعة عاليًا، دق بها الزر بعنف وقوة كمطرقة تُخضع لقوتها مسمارًا عنيد، ضغطه بكلتا يديه كمسعف يمارس إسعافات القلب الأولية، ضغطه بكوع هبط من أعلى كمصارع يهوي على حلق غريمه الواقع على الأرض بضربة قاضية، في مرة عرف أن ضغطته كانت السبب في إطلاق صاروخ نووي قضى على بلد صغيرة بسكانها المليون في أسيا، وفي مرة أطلق سراح ألاف المساجين بعد أن فتح كل كل بوابات السجن بضغطته، وفي مرة بدأ عد تنازلي للتدمير الذاتي صحبته أضواء حمراء قانية بلون الزر تعلن أنه ومكتبه وزره وهاتفه سيصبحان ماضيًا بلا أثر بعد عشرة ثوان، وفي كل مرة كان يصحو غارقًا في العرق مع صوت منبه يخبره ببداية يوم جديد من الإنتظار العبثي.

بعد سنة أو يزيد أخذ قرر أنه لن يذهب إلى العمل اليوم، فالهاتف لن يرن ولا يوجد من يكترث لوجوده من عدمه، وكان هذا من أكثر القرارات ثورية وتمردًا التي إتخذها في حياته، لم يكن أبدًا شخصًا مستقلًا متسائلًا عن مغزى القوانين أو معترضًا عليها، لذا مرت عليه الساعات كألف عام، كل لحظة قضاها بعيدًا عن عمله تيقن فيها أن الهاتف يرن الأن بالذات،  وأن كل قيادات الشركة العالمية المتحدة المحدودة، في جميع أنحاء العالم، يحاولون يائسين الوصول إليه بشتى اللطرق، لأن الزر إن لم ينضغط الأن سينتهي كل شيء، كل شيء.

ساعات ثلاث كانو أكثر من كافيين لتبخر ثورته المفاجئة، خرج إلى الشارع كرصاصة بملابسه المنزلية، فلا وقت يمكن تضييعه في تفاهات مثل كي ملابس العمل الفاخرة وإرتدائها، جرى في الطرقات كلص يطارده جمهور غاضب، بلغ أخيرًا محل عمله لاهثًا مغطى بالوسخ والعرق، وقليل من الدموع، لم يتعرفه جهاز قاريء البصمات لقذارة أنامله بعدما مسح بها جبهته القذرة، صب جام غضبه على الجهاز الغبي المعطوب الذي لا يأبه لكل المصائب التي تحدث الأن ويرفض بغباء فتح الباب، ولكن الجهاز لم يأبه، بطبيعة الحال، لغضبته وصراخه، وإستمر في الترديد بصوته الأنثوي الصبور البارد، "عفوًا، برجاء المحاولة مرة أخرى"، قاوم رغبة جامحة في تحطيمه، مسح سبابته القذرة في طرف القميص المنزلي الذي صار أكثر قذراة، ولمس العدسة مرة أخيرة ليتعرفه الجهاز ويشكره ويفتح له الباب.

كل شيء بالداخل مثلما كان من قبل، لا يرن الهاتف بلا إنقطاع، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن قبل أن يدخل وطوال الساعات الثلاث الماضية، كيف له أن يعرف؟ في تأدب شديد سأل الهاتف والزر الأحمر إن كانوا قد إتصلوا في غيابه؟ لم يرد كلاهما، ضايقه هذا بشدة، ولكنه لم يعبر عن ضيقه وغضبه، فعلى عكس قاريء البصمات الغبي كان للهاتف والزر الأحمر هيبة وإحترام كبيران في نفسه، لم يفكر في هذا أبدًا بشكل واعي، إلا أنه في قرارة نفسه يرى في كلاهما رؤسائه في العمل، لذا لم ولن يجروء أبدًا على التعبير عن سخطه في حضرتهما، لا يمكن.

في نهاية هذا الشهر، خُصم من مرتبه ثلاثة أيام، وتلقى على مكتبه خطاب بريدي جاف اللهجة من إدارة الموارد البشرية في الشركة العالمية المتحدة المحدودة، يؤنبه بشدة على تأخيره في اليوم السابق، ويبلغه بخصم المرتب نتيجة لفعله غير المسئول، وينبئه بوخامة العاقبة التي ستناله في حالة تكرار الفعلة، فالطرد ليس خيارًا مستبعدًا. بعدها، لم يتأخر مرة أخرى، ولم يقلل ثانيًا من إحترام جهاز قاريء البصمات.

* * * *

من النافذة المفتوحة، مرقت ذبابة.
ولاحظ هو دخولها في ظل إنعدام أي مؤثرات أخرى في الغرفة تمنعه من ملاحظة الضيفة الجديدة. لم يكن في هذا حدثًا إستثنائيًا مخالفًا لروتين الحياة اليومية، فالذبابات يأتين من حين لأخر، وهذا يبرر وجود مضرب ذباب بلاستيكي ملقي بإهمال أسفل المكتب، والحق أن دخول الذباب يمثل حدثًا محببًا له، فقد وجد في مطاردة الذباب دومًا رياضة مسلية محببة تساهم في تضييع الوقت، الوقت الذي يمثل ألعن عدو له في وظيفة ليست إلا إنتظار.

خرج من وراء المكتب مغتبطًا، إلتقط المضرب، تسلل في رفق إلى النافذة وأغلقها ليسد عليها طريق الهروب، بدأ في مطاردتها. من حائط لحائط طارت الذبابة المسكينة، التي لابد انها لعنت الصدفة والظروف التي أرسلتها في طريق مختل كهذا، ولم ترسلها مثلًا لمقلب قمامة مليء بالمخلفات البيولوجية المحببة، كان يقفز عاليًا مطلقًا ضربات مضربه وصرخات قتالية تعلمها من أفلام الكاراتيه الصينية الرخيصة، وكانت الذبابة، مثل أغلب الذبابات، خفيفة مرنة ذات رد فعل سريع، تهرب من ضرباته وتتفاداها كـ... كذبابة! وزاد هذا من حماسته وسرعة مطاردته لها، وكأن أخر فعل قامت به الذبابة في حياتها القصيرة، أنها هربت من احدى ضرباته وطارت لتستقر على الحائط المواجه خلف الكرسي، عند إسم الشركة المكتوب على الحائط، تحت نقطتي حرف الياء في كلمة "العالمية"، فظهرت كنطقة ثالثة وبدا الحرف وكأنه باء فارسية (پ).

برغم إنخفاض قوة ملاحظته في العادة، إلا أنه لاحظ غرابة موقع وقوف الذبابة، الناتج عن الصدفة بالتأكيد، لأن الذباب لا يتمتع بحس فكاهة إستثنائي، في الغالب، قرأ الكلمة بصوت عالي بالنقطة/الذبابة الثالثة، (العالمـپة)، قرأها بصوت عال وأعجبه نطقها، ورأى في الكلمة مزحة مضحكة بشدة، ضحك بصوت عالٍ بينما يكرر نطق الكلمة عدة مرات ويزداد ضحكًا، ويبدو أن الذبابة ظنت أن في ضحكه منجاة لها من مطاردته لها فاطمأنت في موقعها الجديد وسكنت، وربما نست ما يحدث، فالبعض يقول أن ذاكرة الذباب قصيرة لا تزيد عن بضعة ثوان في الغالب، وهذا شيء سيء جدًا بالنسبة لكائنات ضعيفة مهددة دومًا مثل الذباب.

بعد دقائق طويلة استغرقها في الضحك، توقف اخيرًا وإلتقط انفاسه ومسح دموعه، كرر نطق الكلمة مرة أخيرة وهز رأسه هزة خفيفة، لم تعد مضحكة بنفس القدر بعد تكرارها عشرات المرات، قرر أن يعود لمطاردته الدامية، تسلل ببطء على أطرف أصابعه، محاذرًا أن يصدر منه أدنى صوت يثير قلق الذبابة المطمئنة، وقف موليًا ظهره للمكتب على كرسي المكتب المزود بعجلات، محاذرًا أن يتحرك به هذا الأخير فيقع وتنتبه الذبابة فتهرب، رفع يده عاليًا بهدووووووء، وبضربة سريعة مخلوطة بصرخة محارب نينجا أطلق مضربه طلقة صاروخية، أنهت حياة الذبابة نهاية لم تكن بالتأكيد تتمناها لنفسها، وصارت جثة الذبابة المسطحة جزءًا دائمًا من حروف كلمة (العالمـپة).

إنتصاره الساحق منحه نشوة حقيقية، قفز في الهواء رافعًا ذراعيه في الهواء صارخًا "وهوووووه"، لم تكن القفزة مرتفعة ولا قوية، ولكن نقطة إرتكاز قفزته كانت كرسي جلدي وثير، بعجلات، غير مجهز ليقفز من القافزون أو ليهبطوا عليه بأمان، وحدث أن تراقصت عجلات الكرسي نتيجة لهبوطه المباغت ليتحرك بضعة سنتيمترات كافية لتسبب إختلال توازن القافز الأحمق، ووقوعه على المكتب.

ضغط الزر من قبل، في منامات وأحلام يقظة، بألف طريقة ممكنة، رأى نفسه بعين الخيال يضغطه بكل الطرق التي يعرفها، وحصر خياراته منذ زمن بعيد في ثلاثة او اربع أوضاع مختلفة لضغط الزر، سيختار من بينها عندما يحين الموعد أخيرًا ويرن الهاتف، ولكن لم يفكر أبدًا، حتى في أكثر خيالاته جموحًا، أن ضغطته الأولى على الزر ستكون بمؤخرته. هو شخص لا تحتل خيالاته أي إستخدام مؤخرته، بأي طريقة من الطرق.

وقع على المكتب جالسًا وضغطت مؤخرته على الزر الأحمر الكبير.
صوت إصطدامه بالمكتب منع عنه سماع صوت الـ(كليك) الناتج عن ضغطة الزر، بيد أنه شعر وبشدة بهبوطه عليه وإنضغاطه بفعل ثقل مؤخرته، وكانت صدمته بحقيقة أن هذا حدث للتو تفوق ألف مرة الشعور بالألم الناتج عن وقوعه مثل هذه الوقعة، وكانت هذه المصيبة هي كل ما كان يفكر فيه أثناء تدحرجه بالقصور الذاتي ووقوعه من المكتب إلى الأرض على ظهره وقدماه مفرودتان في الهواء في وضع الولادة الطبيعية.

هب منتفضًا ما أن لمس الأرض بدون أن يفكر في الألام المبرحة التي يصرخ بها جسده، هرع إلى المكتب ونظر إلى الزر، بدا سليمًا معافًا بدون أدنى تغيير في شكله، عرف أنه مثل أزار الضغط التي ترتد إلى وضعها الأصلي بعد إنحسار الضغط عنها، من ير الزر الأن لن يفكر أبدًا أنه كان منضغطًا منذ ثوان، ولكنه يعرف جيدًا أن هذا حدث، شعر به بكل كيانه. مد يدًا مرتعشة وتحسس الزر، بدأت حبيبات العرق في البروز على جبينه، انكمشت ملامحه واتسعت حدقتا عينه، لم يشعر بأي إختلاف في الزر، لم يشعر بأي إختلاف في أي شيء، لا يوجد أدنى أثر للتوتر والرعب الذي يملؤه على البيئة المحيطة، لم يتغير في العالم الذي يحسه أي شيء، حول نظره تجاه الهاتف، توقع مكالمة غاضبة تصرخ فيه وتنعته بأقذر النعوت، توقع إتصال من شخص يموت يصرخ فيه "ماذا فعلت يا أحمق؟ لقد دمرت كل شيء، كل شيء.." على خلفية من أصوات الإنفجارات وأصوات عربات الإسعاف، ولكن هذه المكالمة أو تلك لم تأت.

فكر أنه أخفق، وانتهى كل شيء، ليس معنى أنه لم يحدث أي تأثير محسوس -تأثير خارجي، إنفجارات البراكين في أعماقه لا تحسب- أنه لم يحدث شيء على الإطلاق، هو أخفق في المسئولية الوحيدة المنوط بها في وظيفته، ولابد أنه سبب ضررًا بالغ الأثر في مكان ما من هذا العالم، ولابد أن إخفاقه سيعود عليه بأسوأ شكل ممكن، سيطردونه من وظيفته، سيطردونه من الوظيفة ذات الدخل الكافي إلى حد ما لتغطية حاجات بيته ووليده المرتقب، ولن يكتفوا بهذا، لابد أنهم سيعاقبونه بشكل ما، ربما يُرسل إلى السجن مثلًا، ربما يقتلونه، سيتناسب رد فعلهم بالتأكيد مع مقدار الضرر الذي سببه، وكونه لا يعلم هذا الضرر لا يعني أنه غير موجود، فقد يكون أسوأ ضرر في الكون، ربما تكون مؤخرته قد أطلقت ألعن الشرور التي عرفها الإنسان!

عرف أنه لا سبيل أمامه لفعل شيء الأن، لا يملك سوى الإنتظار، شعر برغبة شديدة في الهروب من هنا الأن، ولكنه عاد وفكر أن غيابه عن محل عمله في حالة ورود إتصال غاضب أو ربما مجيء غير منتظر من أحد المسئولين سيزيد من سوء عاقبته، أحيانًا يحتاج الهروب شجاعة أكبر من تلك التي تحتاجها المواجة. ظل متجمدًا في وقفته ناظرًا تجاه الزر والهاتف، غير قادر على إتخاذ أي فعل من أي نوع، ظل هكذا لفترة طويلة، طويلة جدًا، سنوات ربما، حتى قطع الجمود رنين ساعته معلنًا بلوغ الساعة الخامسة مساءًا، وخرج وكأنه يهرب من الجحيم، ولم ينس تسجيل خروجه على جهاز قاريء البصمات المحترم.

قضى أغلب ليلته أمام قنوات الأخبار، المحلية منها والعالمية، باحثًا عن أي أثر قد يكون سببه بفعلته، كان العالم -كالعادة- مليئًا بالشرور والمصائب، ولكن لم تبد له أيًا من تلك المصائب سببها ضغطة زر أحمر كبير، ربما لو كان ذو خيال أوسع لفكر مثلًا ان ضغطة ذلك الزر أرسلت إشارة لذلك الإرهابي الذي اختطف الطائرة مثلًا، ولكن أفقه كان اضيق من أن يحتمل مثل هذا الجموح الفكري، ولم يكن هذا ما حدث على أي حال. قضى ما بقى من الليلة ممدًا كخشبة بجوار زوجته الغافية الغافلة عن مصاب زوجها، جفونه لم تنغلق للحظة وحدقتاه جاحظتان في تأمل طويل للسقف، لم يسمح له التوتر والرعب بلحظة نوم واحدة.

وفي التاسعة صباحًا كان يسلم إصبعه كالعادة للماسح الضوئي في قاريء البصمات، دخل المكتب متوقعًا أن يجده ممتلئًا بممثلي الشركة في سترات سوداء أنيقة جاءوا كطاقم إعدام لينهوا مستقبله، لم يكن هناك أحدًا. الزر في مكانه والهاتف في مكانه، والمكتب والكرسي، وحتى الذبابة المسطحة أسفل الياء مازالت في مكانها. كل شيء في مكانه إلا هو، فجلس في مكانه خلف المكتب.

مر اليوم بسلام، واليوم التالي والتالي والتالي، مر الشهر، وصله مرتبه في البنك كاملًا بلا نقصان، بلا خطابات صارخة غاضبة مؤنبة، بلا أدنى تغير في أي شيء، شك للحظة فيما حدث، فكر أنه ربما تخيل ضغطته للزر، ولكن الكدمة الزرقاء المؤلمة في مؤخرته بحجم وقُطر الزر الأحمر الكبير أعادت له الثقة في ذاكرته، ذهبت مخاوفه تدريجيًا، نامت شياطينه، عاد الهدوء إلى حياته مرة أخرى، فكر أنه كان محظوظًا ولم يسبب الزر أي ضررًا هذه المرة، ولكن هذا لا يمنع أنه قد يفعل إذا تكرر الأمر مرة أخرى، ولكن حتى هذه الفكرة ذهبت مع الوقت وحلت محلها فكرة خبيثة مفادها أن الشركة العالمية -أو العالمـپة كما صار يحب أن يسميها - المتحدة المحدودة لم يعد بها من يبالي به أو بزره الأحمر، وازدادت هذه الفكرة توغلًا يومًا بعد يوم في أعماق عقله، حتى استيقظ ذات يوم صباحًا وقرر انه لن يذهب إلى العمل اليوم، فلا يوجد من يهتم. ولم يشعر بأي من الخوف والقلق الذي خامره قديمًا عندما فعلها أول مرة، وقضى يومه بالكامل غائبًا لأول مرة عن وظيفته هادئًا مطمئنًا، وفي اليوم التالي، كان الخطاب شديد اللهجة الذي انتظره طويلًا قد وصل.

بلهجة قاسية حملت الكثير من التهديد والوعيد الرسمي، أخبره مسئول قسم الموارد البشرية في الشركة العالمية المتحدة المحدودة بخصم عشرة ايام من المرتب التالي، وأنذره بالفصل النهائي من الشركة في حالة تكرار فعله الشائن هذا مرة ثالثة، فالشركة العالمية المتحدة المحدودة لا تقبل بتغيب موظفيها عن العمل لأي سبب من الأسباب.
قرأ الخطاب في صمت، ثم ضغط على الزر.

ضغطه بعنف وغل، ضغطه بكامل راحة يده المفرودة، ثم ضغطه بعدة دقات متتالية بقبضته المضمومة، ضغط الزر الأحمر الكبير مئة مرة أو يزيد في هذا اليوم.

* * * *

أخر خطاب وصله من الشركة، شكره فيه مسئول الموارد البشرية على سنوات خدمته المديدة، كان فيها خير قدوة لموظفي الشركة في شتى فروعها في جميع أنحاء العالم، وبقدر ما يحزن الشركة خسارتها لموظف كفء مثله، إلا أنها تتمنى له تقاعد طويل طيب مليء بالسعادة، وتتمنى له الشركة أيضًا عيد ميلاد سعيد بمناسبة بلوغه العام الستين من عمره.

قرأ الخطاب في صمت، ابتسم، ضغط على الزر الأحمر الكبير مرة أخيرة قبل أن يذهب.